التاريخ يبدأ من هنا جمال بن عودة

سفينة صينية غرقت قبل أكثر من خمسمائة سنة في بحر الفلبين، وجاء الاختصاصيون في علم الآثار وأخرجوها من عمق خمسين مترا على الرغم من الأمواج العاتية والمخلوقات البحرية المفترسة. تـتـبعت المشهد في إحدى التلفزات العالمية وذهني منصرف إلى قصر الداي في أعلى القصبة بالجزائر العاصمة .

هذا القصر الذي كان في يوم من الأيام بمثابة قصر الإليزيه في باريس، والذي كان وما يزال شاهدا على خيبتنا السياسية والعسكرية عام ,1827 أي خلال المقابلة التاريخية التي جرت بين الداي حسين والقنصل الفرنسي دوفال، ما زال على حاله من الذلة والهوان على الرغم من أن أشغال الترميم بدأت فيه قبل ثلاثين عاما .

جاء الخبراء الفرنسيون والبولونيون والروس، وأعمل كل واحد منهم يده في جنباته من أجل إعادته إلى رونقه وبهائه، لكنهم انصرفوا عنه جميعا. أموال طائلة صرفت في الترميم منذ مطالع السبعينيات من القرن الماضي، لكن النتيجة ظلت هي هي. وتداول مسؤولون عديدون على رأس وزارة الثقافة الجزائرية، وظل الساحر محصورا في نطاق سحره، لا يقوى على أن يفك الأربطة كما يقال بلغة السحر والسحرة .

لكأن القوم لا يهتمون بتاريخهم إطلاقا مع أن ألسنتهم تزداد طولا كلما جرى الاحتفال بهذه الذكرى الوطنية أو تلك. بالونات تنفخ هنا وهناك، ثم تصير فقاقيع هوائية، ويضيع التاريخ الجزائري في أثنائها. وأعجب ما في الأمر هو أننا لا نسأل عن المتسببين في التأخر، ولا عن الأموال الطائلة التي صرفت خلال العقود الماضية من أجل ترميم هذا القصر .

هل هناك من يفكر في مثل هذه الأمور؟

الصحافة الوطنية أخبرتنا خلال الفترة الأخيرة أن ما يقرب من أربعين شابا جزائريا أنقذوا في عرض البحر الأبيض المتوسط، وتوقف الأمر عند هذا الحد. وكان المفترض أن ينعقد مجلس للوزراء ليناقش مثل هذه المسألة .

قبل عشرين عاما قرأت تحقيقا صحفيا مصورا عن سفينة يونانية غرقت بالقرب من جزيرة قبرص قبل عشرين قرنا من الزمان. وجاء الخبراء واستخرجوها قطعة قطعة، بل إنهم أكلوا بعض حبات اللوز التي كانت داخل جرار أحكمت سداداتها. أو ليس هذا بالشيء الجميل في هذا الزمن القبيح؟

قصر الداي عندما ننظر إليه وهو على حاله النكراء يدفعنا إلى أن نصدر أحكاما قاسية. فإما أن ندمره تدميرا كليا، وننتهي من أمره، ونوفر أموالا يمكن أن نرصدها من أجل بناء مشاريع حيوية جديدة، وإما ينبغي أن نحاسب كل من أشرف على عمليات الترميم الخائبة من جزائريين وبولونيين وفرنسيين وروس وغيرهم .

قصر الداي لا يوجد على عمق خمسين مترا، بل إننا نصبحه ونمسيه، وبالقرب منه ثكنة عتيدة، هي ثكنة (علي خوجة) التي كانت في يوم من الأيام ثكنة (الدوق أورليان)، فلم هذا التلاعب كله بتاريخ الوطن؟ أم إن هناك حقا من يريد أن يخرب تاريخنا جهارا عيانا؟

الحداثة لا تعني التنكر للأصول، فلا فندق (الأوراسي) ولا فندق (الشيراتون) ينوبان عن قصر الداي وقصر الامبراطور، ولا عن حي القصبة. التاريخ يبدأ من هنا بالذات