-كنت في العشرين ، فسمعت السانتوري لأول مرة في إحدى الاحتفالات القروية ، هناك عند قدم جبل أوليمب ، فبهرت لتوي حين سمعت النغم ، و بقيت ثلاثة أيام دون طعام ، و سألني والدي رحمه الله " ماذا جرى لك ؟ " ، فقلتُ له أنني أريد أن أتعلم العزف على السانتوري ، فقال لي " ألا تخجل من نفسك ؟ هل أنت غجري ؟ هل تريد أن تتحول إلى عازف ؟ " فأجبته " نعم ، أنا أريد أن أتعلم العزف على السانتوري " و كنت قد ادخرتُ بعض القروش لكي أتزوج حين يحين الوقت ، فقد كنت لا أزال فتيا و دم الشباب لا يزال يجري حارا في عروقي ، و أريد الزواج ، أنا الغبي المسكين ! و هكذا دفعت كل ما ادخرته نم مال ثمنا لشراء السانتوري ، و هربت إلى سالونيك حيث قابلت رجلاً تركيا يدعى رستب أفندي ، و هو معلمٌ ماهر للعزف على السانتوري ، فقلتُ له " إنني أريد أن أتعلم العزف على السانتوري " فقال " حسنا ، و لكن لماذا ألقيت بنفسك على أقدامي هكذا ؟ "
- لأني لا أملك مالاً لأدفعه لك .
- و أنت مغرم بالسانتوري إلى هذا الحد ؟
- نعم .
- حسنا ، يمكنك البقاء يا ولدي ، فأنا لستُ بحاجةٍ إلى مالك .
و بقيتُ عنده سنة أتعلم العزف ، و هو لا بد أن يكون قد مات الآن ، رحمه الله ، و إذا كان الله تعالى يسمح بدخول الكلاب إلى جناته ، فلعله يفتح أبواب الجنة لرستب أفندي ، و منذ أن تعلمت العزف على السانتوري حتى أصبحت رجلا آخر ، فعندما أشعر بالحزن ، أو حين أكون مفلسا ، أعزف على السانتوري فأشعر بالسعادة و الانشراح ، و عندما أعزف لا أسمع شيئا مما يقولونه لي ، و إذا سمعت فلا يمكنني الكلام ، ولا فائدة من المحاولة فأنا لا أستطيع ... "
- و لكن لماذا ، زوربا ؟
- أوه ، ألا ترى ؟ إنه الهوس المحموم ، نعم إنه الهوس .
و فتح باب المقهى من جديد و سمعت هدير البحر ، و كانت أيدينا و أرجلنا متجمدة من شدة الصقيع ، فانزويت أكثر إلى الركن الدافئ و تلفعت بالمعطف و نعمت بدفء المكان ، و قلت في نفسي " إلى أين سأذهب ، فأنا في أحسن حالٍ هنا ، ليت هذه اللحظة تدوم سنين طويلة " ، و نظرت إلى الرجل الغريب أمامي ، الذي كان يحدق بي و قلت له :
- حسنا ؟ استمر .
و هز زوربا بكتفيه و قال :
- دعك من ذلك ، هل تعطيني سيجارة ؟
و قدمت له سيجارة ، تناولها و أخرج من جيبه قداحة و فتيلة و أشعل السيجارة ثم أغمض عينيه بسرور و ارتياح ، و سألته :
- متزوج ؟
و أجابني غاضباً :
- ألستُ رجلاً ؟ ألستُ رجلاً ؟ أعني أعمى ، شأني شأن الجميع ، لقد سقطت على رأسي في الفخ و تزوجت ، و أصبحت رب عائلة ، و بنيت بيتا ، و أصبح عندي أطفال و مشاكل ، و لكن شكرا للرب على السانتوري ..
- و هل كنت تعزف لتنسى همومك ؟
- اسمع ، إني أرى أنك لا تستطيع العزف على أية آلة موسيقية ، في البيت تكمن كل مشاكلك ، الزوجة ، الأولاد ، ما الذي ستأكله ؟ كيف ندبر أمر الملبس ؟ ما الذي سيحل بنا ؟ يا للجحيم ، كلا ، لكي تعزف السانتوري يجب أن تكون في حالة جيدة ، يجب أن تكون صافياً ، فإذا ما رددت زوجتي كلماتها فكيف يمكنني العزف ؟ و إذا كان أولادك جائعين يصرخون ، حاول عند ذلك أن تعزف على السانتوري ، فعقلك يجب أن يكون عند السانتوري ، لا عند أشياء أخرى ، هل فهمت ؟!
نعم ، فهمت ، إن زوربا هو الرجل الذي كنت أنشده منذ مدة طويلة دون أن أجده ، قلب حي ، و فمٌ ضخم شره ، و نفس كبيرة قاسية لم تعركها الأيام .
إن معنى كلمات الفن و الحب و الطهارة و العاطفة ، كل هذه المعاني أظهرتها لي تلك الكلمات البسيطة التي تفوه بها هذا الرجل العامل .
و نظرت إلى يديه التين تستطيعان الإمساك بالمعول و السانتوري ، يدان متحجرتان ، مشققتان ، مشوهتان ، و باعتناءٍ بالغ ، كأنهما تخلعان ثياب امرأة ، فتحت الصرة و سحبت منها السانتوري الذي صقلته السنون ، مع حزمة من الأوتار ، مضربا بالنحاس و العاج مع شرابة حمراء من الحرير ، ثم راحت تلك الأصابع الطويلة تداعبه بعطف كأنه أيدٍ تداعب وجه امرأة ، ثم أعادت وضعه و لفته باعتناء بالغ كأنه جسدٌ محبوب خافت عليه من البرد .
- هذا هو السانتوري العزيز .
تمتم ذلك و هو يضع الصرة باعتناءٍ على الكرسي ، و كان البحارة يقرعون الكؤوس و يضحكون ، و ربت البحار العجوز على كتف الكابتن ليموني و هو يقول :
- قل الحقيقة يا كابتن ، ألست خائفا ؟ إن الله أعلم بعدد الشموع التي نذرتها للقديس نيقولا .
و قطّب الكابتن حاجبيه الضخمين :
- أقسم لكم ، إنني عندما رأيت الموت يقترب مني لم أفكر بالقديسة العذراء ، ولا بالقديس نيقولا ، بل التفت نحو سالاميس ، و فكرت بزوجتي و صحت " آه ، كاترين ! لو أنني الآن معكِ في الفراش "
و انفجر البحارة في الضحك ، و شاركهم الكابت ليموني الضحك هذه المرة .
- يا للإنسان ، إن الرجل حيوان ، فقد كان شبح الموت مخيما فوق رأسه بينما كانت أفكاره منشغلة هناك ، لا في أي مكان آخر ، تباً له من حيوان !
و صفق الكابتن و طلب دورا آخر من الشراب لرفاقه ، كان زوربا يستمع إلى الحوار بأذنين كبيرتين ، و التفت إليهم ثم قال لي :
- ما هذا ؟ ماذا يقول هذا الرجل ؟
و لكنه فهم فجأة ، و هتف بإعجاب :
- برافو ، يا صديقي ، إن هؤلاء البحارة يعرفون السر ، و أغلب الظن لأنهم معرضين ليلا نهارا للموت .
و أشار بقبضتيه في الهواء و قال :
- حسناً ، إن هذه مسألة أخرى ، و لنعد الآن إلى عملنا ، هل سأبقى أم لا ؟ قرر بسرعة .
- أنا موافق يا زوربا ، تعال معي إلى كريت ، فلدي فحما هناك ، و باستطاعتك مراقبة العمال ، و في المساء ستتمدد على الرمال ، في هذا العالم ليس عندي لا زوجة ولا أطفال ولا كلاب ، سنأكل و نشرب معا ، و ستعزف أنت على السانتوري .
- هذا إذا كنت في مزاج خاص للعزف ، هل تسمح ؟ سأعمل لك أي شيء تريده ، فأنا رجلك المطيع هناك ، و لكن السانتوري .. فهذا شيءٌ آخر ، إنه حيوان وحشي ، و هو بحاجة إلى الحرية ، فإذا كنت مستعدا للعزف فسأعزف ، و ربما أنحني أيضا ، و سأرقص " الزيباكيكو " و " الهاسابيكو " و " البنتوزالي " و لكن دعني أخبرك منذ الآن ، يجب أن أكون مستعدا لذلك ، لنفهم ذلك بوضوح ، و إذا أرغمتني على ذلك فسينتهي كل شيء الآن ، فأنا بما يتعلق بهذه الأمور .. رجل .
- رجل ؟ ماذا تعني بذلك ؟
- أعني .. حراً .
و طلبت كأسا من الروم فأضاف زوربا طالبا كأسا آخر أيضاً ، و قرعنا الكؤوس ، و كان الصباح قد أشرق ، و سمعنا صفارة المركب , و أشار الحمال الذي نقل حقائبي إلى المركب ، و قلت و أنا أنهض :
- تعال ، لنذهب .. و ليكن الله معنا .
- الله و الشيطان معاً